أسوة بجميع الآداب الأخرى، تتمتّع الآداب الألمانية بعلاقات وطيدة مع كافة الحقول الإنسانية: الثقافة والمجتمع والتاريخ والسياسة. وعلى وجه الخصوص، من العسير جدًا سلخ هذه الآداب عن الأسئلة الجوهرية الكبيرة المرتبطة بمصير الثقافة الألمانية منذ بزوغ فجر حركة التنوير وحركة طوباوية الحرية في القرن الثامن عشر وحتى اندثارهما في إطار ألمانيا النازية (الرايخ الثالث) والمحرقة النازية. وكذلك، فإن استمرار ألمانيا مقسّمة بين الشرق والغرب وحتى انضمامها إلى السوق الأوروبية المشتركة يثير كل ذلك الكثير من الفضول بشأن طبيعة الثقافة الألمانية التي انفتحت حاليًا أمام الهجرة والمهاجرين الوافدين عليها من كافة أصقاع الأرض.
لطالما اعتبرت الآداب الألمانية بوصفها مرآة عاكسة لمختلف الأسئلة الجوهرية الكبيرة هذه التي لا تنفك تلازمها منذ تشكيلها في الحقبة الكلاسيكية وحتى يومنا هذا، إذ نشهد أن الثقافة الألمانية تقف حاليًا على مفترق طرق يفصل بين الطوباوية والأيديولوجيا، العالمية والقومية، الدين والعلمانية، الحداثة الصارمة والحنين لرومانسية العصور الوسطى، وبين المثال الأعلى والخراب. تأصّلت الآداب الألمانية بكافة أنواعها - بدءًا من الدراما والرواية وصولاً إلى الشعر - بهذه التوتّرات، إذ إنها ترتبط بالنظرية الجمالية والحقول الفلسفية التي تتشابك معها الآداب الألمانية منذ لحظة تشكيلها بصورة بالغة. لا نجد على أرض الواقع أديبًا أو شاعرًا ألمانيًا - بدءًا من ليسينغ وحتى هاينه، من شيلر وحتى توماس مان، من كافكا وحتى باول سيلان - لم يستند إلى الفلسفة ويسعى إلى سبر أغوار مشاكل الثقافة والتاريخ الألماني انطلاقًا من منظوره الخاص. كذلك، نشهد أن الفلسفة الألمانية - بدءًا من كانت وحتى نيتشه، ومن هيجل وحتى بنيامين - تتناول دومًا إشكالية الثقافة وخاصة دورها في الفنون والآداب الحزينة.
تتجلّى هذه الوضعية المميزة للآداب الألمانية في العلاقة بين الآداب اليهودية الألمانية، التي تسعى - منذ ظهور حركة التنوير والتحرّر واعتماد الدعوة للانصهار والتهجير وصولاً إلى المحرقة النازية - إلى التعامل مع الأسئلة نفسها انطلاقًا من زاويتها الوجودية المميزة. من العسير التفكّر بالآداب الألمانية بمعزل عن مساهمة الأدباء اليهود العظماء بدءًا من هينريش هينه وحتى كافكا، ومن فولتير بنيامين وحتى إلزه لاسكر شولر. يقوم جميع هؤلاء بالتشابك مع الأسئلة الثقافية من منظور المنتمين إلى الأقلية، الأجانب، والمهمَّشين المبعَدين، الأمر الذي يوفّر لنا منظور نقدي مميّز للتعامل مع قضايا الثقافة الألمانية. يبدو كذلك أن الآداب اليهودية الألمانية يمكنها أن تشكّل حاليًا أرضية لقضايا مبدئية محورية مرتبطة بإمكانية التعدّدية الثقافية وحوار الثقافات والمخاطر التي يمكن لها أن تظهر في إطار عملية الاندماج. تحوّلت هذه القضايا مجدّدًا إلى إشكاليات معاصرة بدءًا من ستينيات القرن العشرين، إذ استوعبت ألمانيا مهاجرين من تركيا والبلقان، وصولاً إلى يومنا إذ نشهد مؤخرًا تدفّق أفواج واسعة من المهاجرين من البلاد العربية الذين لا يجلبون ثقافة ولغة جديدين فحسب بل ودين الإسلام أيضًا بوصفه عاملاً جديدًا في الحلبة الثقافية العلمانية.
انطلاقًا من وجهتي النظر، التجربة اليهودية الألمانية وقضية الاندماج الثقافي الحالية، نشهد نشوء إطلالة عصرية مميزة على الآداب الألمانية التي سعت منذ عصر ليسينغ وغوته وشيلر إلى تشكيل تصوّر لثقافة كونية تقوم على الحوار بين المسيحية واليهودية والإسلام بحيث يستند هذا الحوار إلى ثقافة كونية تتخطّى حدود الثقافة الدينية والقومية. ربما هنالك دلالة مميزة للتعامل مع سياقات الثقافة الألمانية والآداب اليهودية الألمانية في القدس تحديدًا، تلك المدينة التي تتمتّع بتعدّدية لغوية وثقافية، مدينة الديانات التوحيدية التي يحتلّها الصراع الدائم، ولكنها تحمل في جعبتها كذلك آمالاً طوباوية وتتوق إلى إحلال السلام والعدل.